الحمد لله تعالى الذي علم الإنسان. وهدى إلى الفرقان. والصلاة والسلام على النبي المرسل بالقرآن. وعلى آله وأصحابه سادة أهل الإيمان. أخي المسلم: إن عبادة الله تعالى هي غاية الخلق في الدنيا.. ولأجلها خُلقوا.. والسعيد منهم من اشتغل بوظائفها..
ولا تكون العبادة صحيحة إلا إذا كانت على بصيرة وعلم؛ ولأجل ذلك بعث الله تعالى الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنزل الكتب، كل ذلك لهداية الخلق إلى الصراط المستقيم.. فأتباع الرسل على بصيرة؛ هم أعرف الناس بعبادة ربهم تبارك وتعالى؛ إذ أنهم اقتبسوا من نور الوحي الإلهي، وأما من عمي عن هذا النور؛ فهو الذي تخبط ولم يعبد ربه تعالى على بصيرة..
فهيا بنا أخي المسلم إلى محاسبة أخرى من هذه السلسلة: (سلسلة المحاسبة).
(هل أنت حريص على تعلم دينك؟!)
هو مشوار هذه المحاسبة، وهو سؤال لا بد لكل مسلم أن يسأله نفسه..
ولتكن المحاسبة صادقة؛ ليكون الجواب صادقًا..
أخي المسلم:
حرصك على تعلم دينك، هو بداية فلاحك.. إذ أنك ستسلك طريقًا يوصلك إلى الجنة..
قال الحسن البصري: (إن الرجل يتعلم الباب من العلم فيعمل به خير من الدنيا وما فيها!).
وقال سفيان الثوري: (ما يراد الله بشيء أفضل من طلب العلم، وما طُلب العلم في زمان أفضل منه اليوم).
وما أحوجك أيها المسلم إلى العلم النافع الذي به تعرف ربك تعالى؛ فتفرده بالعبادة، وتعبده على بصيرة..
وشرف العلم بشرف المعلوم، وإنما شرف العلم الشرعي لشرف الدين الذي يرتبط به.. وهو أغلى بضاعة!
قال رسول الله: {الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالمًا أو متعلمًا} [رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما:السلسلة الصحيحة:2797].
ولزامًا عليك أيها المسلم أن تعلم أن حاجتك إلى تعلم دينك؛ أشد من حاجتك إلى الطعام والشراب!
وكما أنك تحرص على كسب معاشك لتحيا؛ فلتحرص على تعلم دينك، إذ أنه الحياة الحقيقية، والتي أنت بدونها في عداد الأموات!
قال الإمام أحمد بن حنبل: (الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس!).
وقال ابن القيم: (العلماء بالله وأمره هم حياة الموجود وروحه، ولا يستغنى عنهم طرفة عين، فحاجة القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفس في الهواء، بل أعظم! وبالجملة فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها!).
أخي المسلم:
ومن أجل هذه الحوجة كان فرضًا على كل مسلم أن يتعلم من دينه ما يجعله يعبد الله على بصيرة..
قال رسول الله: {طلب العلم فريضة على كل مسلم} [رواه ابن ماجه:صحيح ابن ماجه للألباني:184].
سُئل الإمام مالك عن طلب العلم، أواجب؟ فقال: (أما معرفة شرائعه وسننه وفقهه الظاهر فواجب، وغير ذلك منه، من ضعف عنه فلا شيء عليه).
وقال ابن عبد البر: (قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية، إذا قام به القائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع، واختلفوا في تخليص ذلك، والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه...).
وذكر من ذلك: (معرفة الله تعالى وتوحيده، والصلوات الخمس وما يلزمها من العمل فيها، وصوم رمضان، وما يصح به صومه، وما يفسد، والحج إذا كان ذا قدرة، والزكاة إذا كان ذا مال، وأشياء لا يعذر بجهلها، نحو: تحريم الزنا، والربا، وتحريم الخمر، وأكل لحم الخنزير، وأكل الميتة، والغصب، والرشوة، والشهادة بالزور، وأكل أموال الناس بالباطل، وتحريم الظلم، وغيرها من المحرمات).
أخي المسلم:
الأمور السابقة مما ينبغي لكل مسلم أن لا يجهلها فلتحاسب نفسك: ما هو نصيبها من بضاعة العلم الشرعي؟!
فإن الناس درجات في حرصهم على تعلم دينهم، وهي درجات متفاوتة، وفي كل درجة طائفة، وسأذكر لك هذه الدرجات من كلام العلماء الربانيين، فانظر نفسك في أي درجة أنت؟!
قال علي رضي الله عنه: (الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وسائل الناس همج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح!).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (اغدُ عالمًا أو ومتعلمًا، ولا تغدُ بين ذلك!).
وعن حميد عن الحسن أن أبا الدرداء قال: (كن عالمًا أو متعلمًا، أو محبًا، أو متعبًا، ولا تكن الخامس فتهلك!).
قال: قلت للحسن: وما الخامس؟
قال: المبتدع!
أخي المسلم:
حاسب نفسك: في أي صنف أنت من تلك الأصناف؟!
وإياك أن تكون من أولئك الذين لا يبالي أحدهم بتعليم دينه والفقه فيه!
فكم من مصلٍّ لا يعرف الصلاة الصحيحة كما صلاّها النبي!
وكم من صائم يقع في الكثير من الأخطاء وهو لا يشعر!
وكم من قاصد بيت الله الحرام لا يعرف كيف يؤدي نسكه!
وكم من مبتدع واقع في الكثير من البدع، وهو يظن أن ذلك من السنة!
وكم من تاجر واقع في كثير من المعاملات المحرمة، وهو يظن أنها حلال!
وكم من آكل لأموال الناس بالباطل، لا يميز بين الحلال والحرام!
كل ذلك تجد الآفة في غالبه الجهل بأحكام الدين، والعجيب في ذلك أن ترى الواقع في تلك المحاذير في سن لا يليق بصاحبها أن يكون جاهلًا بأمور دينه، وخاصة وقد توفرت الأسباب المعينة على تعلم أحكام الدين، فأصبح متيسرًا للمسلم معرفة دينه..
قيل لعبدالله بن المبارك: إلى متى يحسن للمرء أن يتعلم؟! قال: (ما دام يقبح عليه الجهل، يحسن له التعلم).
وقال محمد بن الفضل السمرقندي الواعظ: (كم من جاهل أدركه العلم فأنقذه، وكم من ناسك عمل عمل الجاهل فأوبقه، احضر اعلم، وإن لم تحضرك النية، فإنما تطلب بالعلم النية، وإن أول ما يظهر من العبد لسانه، وأول ما يظهر من عقله حلمهُ).
أخي المسلم:
احرص على تعلم دينك، وأزل كل حاجز يحجزك عن ذلك، فإن العلم بالتعلم.
وإن من الحواجز التي صدّت البعض عن تعلم العلم الشرعي: الحياء والكبر!
قال مجاهد: (لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر).
أما الحياء: فإن كل حياء صدك عن المكارم؛ فليس هذا بحياء؛ فإن الحياء خلق يحجز عن القبائح، والذي لا يأتي حلقات العلم، ولا يسأل العلماء فيما أشكل عليه؛ فهو على خطر عظيم! إذ أنه سيقدم على كثير من الأفعال بغير علم!
وأما المتكبر: فواقع في كبيرة من كبائر الذنوب، وفي صاحبها قال رسول الله: {لا يدخل الجنة من في قلبه خردلة من كبر!} [رواه الحاكم والطبراني:صحيح الترغيب للألباني:2910].
أخي المسلم: إن الفقه في الدين دليل خيرك وفلاحك.. فإنك إذا فقهت دينك؛ كنت ممن يعبد الله على علم؛ فتزداد من الله تعالى قربًا..
قال النبي: {من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين...} [رواه البخاري ومسلم].
قال الحافظ ابن حجر: (ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين - أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع - فقد حرم الخير... لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيهًا، ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائل العلوم).
فحاسب نفسك أيها العاقل.. ألا تحب أن تدخل في هذه الخيرية؟!
فإنه لا يستوي عالم بدينه وآخر جاهل!
قُل هَلْ يَسْتوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذيِنَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلبَابِ [الزمر:9].
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (يرزق الله العلم السعداء، ويحرمه الأشقياء!).
وقال ابن القيم: (السعادة الحقيقية هي سعادة نفسانية روحية قلبية، وهي سعادة العلم النافع ثمرته، فإنها هي الباقية على تقلب الأحوال، والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره، وفي دوره الثلاثة، وبها يترقى معارج الفضل، ودرجات الكمال، كلما طال الأمد ازدادت قوة وعلوًا...).
ولكن ما أكثر الغافلين عن هذه السعادة! ترى أحدهم حريصًا على جمع الدينار والدرهم.. حريصًا على معرفة طرق الكسب، وتكثير ماله.. ولكن تجده زاهدًا في معرفة دينه.. وتكثير رصيده من العلم النافع!
يجزع أحدهم إذا خسر القليل من ماله.. ولا يجزع إذا خسر الكثير من دينه!
ويفرح إذا استفاد القليل من المال.. ولا يفرح إذا استفاد علمًا من دينه!
عن عقبة بن عامر قال: خرج رسول الله ونحن في الصفة، فقال: {أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق؛ فيأتي منه بناقتين كوماوين، في غير إثم ولا قطع رحم؟!} فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: {أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد؛ فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربعٍ، ومن أعدادهن من الإبل؟!} [رواه مسلم].
قال أبو غنية الخولاني: (رب كلمة خير من اعطاء المال، لأن المال يطغيك، والكلمة تهديك).
أخي المسلم:
إن خير علم تعلمته؛ علمًا هداك إلى معرفة الله تعالى، وعبادته على بصيرة.. ولن تجد بضاعة أغلى منه..
وقد قال النبي: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} [رواه البخاري].
وعن علي الأزدي قال: سألت ابن عباس عن الجهاد، فقال: (ألا أدلك على ما هو خير لك من الجهاد؟! تبني مسجدًا تعلم فيه القرآن، وسنن النبي، والفقه في الدين).
أخي المسلم: إن سؤال أهل العلم، طريق إلى الفقه في الدين.. وقد حضك الله تعالى إلى سؤال العلماء إذا أشكل عليك شيء.. فقال الله تعالى: فَاسْألوا أهْل الذَكْرِ إن كُنُتْم لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7].
قيل لابن عباس رضي الله عنهما: أنى أصبت هذا العلم؟!
فقال: (بلسان سؤُول وقلبٍ عقُول).
فسؤال أهل العلم شفاء للجهل.. فإياك أن تقدم على أمر من أمور دينك وأنت لا تعلم حكمه.. فإن عبادة الله على جهل لا يزداد العبد بها من الله إلا بعدًا!
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (زيادة العلم الابتغاء، ودرك العلم السؤال، فتعلم ما جهلت، واعمل بما علمت).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (العلم بالتعلّم، والحلم بالتحُّلُم، ومن يتحرّ الخير يعطهُ، ومن يتوق الشر يوقهُ).
وسئل ابن المبارك: ما الذي لا يسع المؤمن من تعليم العلم إلا أن يطلبه، وما الذي يجب عليه أن يتعلمه؟!
قال: (لا يسعه أن يقدم على شيء إلا بعلم، ولا يسعه حتى يسأل).
ولتعلم أخي المسلم أن من شرف الذي يحرص على العلم النافع، أن النبي أوصى به، وهو شرف لكل من حرص على تعلم دينه..
قال رسول الله: {سيأتيكم أقوام يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا مرحبًا بوصية رسول الله واقنوهم}.
قلت للحكم: ما {اقنوهم}؟ قال: علموهم. [رواه ابن ماجه:صحيح ابن ماجه للألباني:203].
أخي المسلم:
إن علمًا قليلًا تحرص على طلبه؛ لتتفقه في دينك؛ خير لك من أضعافه من عمل صالح تعمله.. وكيف لا؟! فإن العلم طريق للعبادة الصحيحة، فلا عبادة بغير علم..
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (لكل شيء عماد، وعماد هذا الدين الفقه، وما عُبِدَ الله بشيء أفضل من فقه في الدين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد!).
فإنك أيها المسلم؛ بجهد يسير تستطيع أن تتفقه في دينك، وإليك محطات هذه الرحلة..
وأولها: ابدأ بكتاب الله تعالى:
فحاول أن تتقن تجويده، وقراءته قراءة صحيحة، والوسائل إلى ذلك متعددة، وأفضلها القراءة على شيخ متقن، مع سماع أشرطة التلاوة المجودة، والإكثار من القراءة، ولك أن ترجع إلى كتب التفسير الميسرة؛ لتجمع بين معرفة القراءة الصحيحة وفهم الذي قرأته.
ثانيًا: قراءة الكتب الفقهية الميسرة:
وخاصة ما تحتاج إليه من أمور تتكرر عليك كثيرًا؛ كصفة الصلاة، والضوء، والغسل، والتيمم، وأحكام المسافر، وإذا كنت من أرباب المال؛ احتجت إلى معرفة أحكام الزكاة، والبيوع والمعاملات المالية.
ثالثًا: قراءة الكتب المختصرة في شروح بعض الأحاديث النبوية:
وغيرها من المتون المختصرة في العلوم الشرعية، وعلى رأس هذه العلوم؛ علم التوحيد، ويكون ذلك بتأن واستيعاب لما تقرأ، والأصل في ذلك الاستفادة من الشيخ، وإذا لم يتيسر ذلك كما هو حال الكثيرين؛ فإن التقيد بالترتيب المذكور مع الصبر والاجتهاد؛ يؤدي إلى نتيجة مرضية.
رابعًا: الحرص على سؤال أهل العلم:
في كل ما أشكل، وتنظيم ساعات فراغك، واستغلالها في الاستفادة من سماع الدروس العلمية، والمحاضرات المفيدة.
والرغبة الصادقة هي أصل ذلك كله، فعلى المسلم أن يحرص على تعلم دينه، ويصدق النية في ذلك؛ فلن يعدم من الله معينًا..
أخي المسلم:
ليس شرطًا أن تحيط علمًا بجميع العلوم الشرعية، ولكن إذا اسعفتك همتك إلى ذلك ففي ذلك خير..
وأما القدر الواجب عليك من العلم الشرعي فقد علمته، وهو الذي بدونه لن تعبد الله تعالى عبادة صحيحة..
فاحرص على تعلم دينك، ولا تضيع ساعات عمرك فيما لا ينفع، وادع الله تعالى أن يعينك على ذلك..
قال رسول الله: {سلوا الله علمًا نافعًا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع} [رواه ابن ماجه:صحيح ابن ماجه للألباني:3114].
والحمد لله تعالى.. والصلاة والسلام على النبي محمد وآله وصحبه.
الكاتب: أزهري أحمد محمود
المصدر: موقع كلمات